مع توالي موجات الحرّ القاسية في مختلف أنحاء العالم، أصبح واضحًا أن آثار الحرارة المرتفعة لا تتوقف عند حدود الإنهاك الجسدي أو ضربة الشمس، بل تمتد عميقًا إلى صحة الإنسان العقلية والنفسية. في دراسة نُشرت بمجلة Nature Climate Change، تبيّن أن معدلات التوتر والقلق وحتى الانفعال الحاد ترتفع بشكل ملحوظ في الأيام الحارة. لكن كيف يحدث ذلك؟ وكيف يمكننا حماية عقولنا من ضغوط الصيف اللاهب؟
كيف تؤثر الحرارة على الدماغ والحالة النفسية؟
جسم الإنسان مصمم ليعمل ضمن نطاق حراري ضيق يحافظ فيه الدماغ على نشاطه الطبيعي. وعندما ترتفع الحرارة، ينشغل الجسم بمحاولة خفض حرارته عبر إفراز العرق وتحريك الدم نحو الجلد للتبريد. هذه العملية تسحب جزءًا من تدفق الدم نحو الدماغ، مما يؤدي إلى انخفاض التركيز والشعور بالإرهاق الذهني.
أظهرت دراسات جامعة هارفرد أن موجات الحر الشديدة تؤثر على النوم بشكل مباشر، حيث تمنع الجسم من الوصول إلى مراحل النوم العميق الضرورية لإصلاح الدماغ وتنظيم المزاج. كما لوحظ ارتباط وثيق بين ارتفاع الحرارة وزيادة معدلات الاكتئاب، التهيج، واضطرابات القلق العام. وفي مناطق معينة ارتبطت موجات الحر بزيادة معدلات العنف والانتحار، ما يعكس التأثير العميق غير المرئي للحرارة على الجهاز العصبي والنفسي للإنسان.

استراتيجيات عملية لحماية صحتك العقلية أثناء ارتفاع درجات الحرارة
1. الترطيب المستمر: أكثر من مجرد ماء
شرب الماء لا يحافظ فقط على توازن الأملاح والسوائل في الجسم، بل يدعم أيضًا عمل الناقلات العصبية المسؤولة عن المزاج والذاكرة والانتباه. ينصح الخبراء بتناول كميات كافية من الماء مقسمة على مدار اليوم، مع إضافة رشة ملح طبيعي أو شريحة ليمون لتعويض الأملاح المفقودة عبر التعرّق. حتى الجفاف الطفيف يضاعف الشعور بالتوتر والصداع ويقلل القدرة على التفكير الإيجابي.

2. النوم الجيد رغم الحر
قلة النوم الناتجة عن الحرارة العالية ليلاً تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية، إذ يزداد القلق ويصبح الدماغ أكثر حساسية لأي ضغوط صغيرة. للحفاظ على نوم جيد:
- استخدم ملاءات قطنية خفيفة تسمح بمرور الهواء.
- ضع كيسًا مملوءًا بالماء البارد في الفريزر واستخدمه لتبريد الفراش قبل النوم.
- أغلق الستائر خلال النهار لمنع حرارة الشمس من التسرب إلى غرفتك.
- تجنب الأجهزة الإلكترونية قبل النوم بساعتين، لأنها تولد حرارة إضافية وتؤثر على هرمون الميلاتونين المنظم للنوم.
3. التواجد في الظل وتقليل النشاط البدني في أوقات الذروة
يؤدي التعرض المباشر للشمس وقت الظهيرة إلى رفع حرارة الجسم والدماغ بشكل كبير، مما يضاعف الشعور بالانفعال والصداع والدوار. من المهم جدولة الأنشطة الصباحية الباكرة أو المسائية بعد الغروب، والبقاء في أماكن ظليلة أو مكيفة خلال ساعات الذروة.
4. ممارسة التأمل وتمارين التنفس
تشير دراسات علم الأعصاب إلى أن التأمل حتى لخمس دقائق يوميًا يخفف من نشاط الجهاز العصبي الودي (المسؤول عن التوتر) ويعزز الشعور بالهدوء والتركيز. اجلس في مكان هادئ وخذ شهيقًا عميقًا من الأنف وعد حتى أربعة، ثم ازفر ببطء عبر الفم وعد حتى ستة. كرر التمرين لدقائق حتى تشعر بالراحة.

5. لا تهمل التواصل الاجتماعي
العزلة أثناء موجات الحر قد تزيد الشعور بالاكتئاب أو القلق. الحرص على البقاء على اتصال بالعائلة أو الأصدقاء، حتى بمكالمة قصيرة أو رسالة ودودة، يمنح شعورًا بالأمان والدعم الاجتماعي ويقلل من وطأة الانفعال.
6. الانتباه للنظام الغذائي
تناول وجبات خفيفة غنية بالماء والمعادن مثل السلطات الطازجة والخضروات الورقية والفواكه الصيفية كالبطيخ والخيار، بدلاً من الأطعمة الدهنية الثقيلة التي تزيد الإحساس بالخمول والتعب العقلي.
كيف نعيد التوازن لأنفسنا في زمن التغير المناخي؟
لم تعد درجات الحرارة المرتفعة مشكلة عابرة، بل أصبحت حقيقة يومية في كثير من الدول. إن التسلّح بطرق عملية مثل الترطيب الجيد، النوم الصحي، النظام الغذائي المناسب، وتقنيات التأمل يمنحنا القدرة على حماية صحتنا العقلية واستعادة توازننا رغم قسوة الجو. فالعقل والجسم وجهان لعملة واحدة، وكل عناية بأحدهما تنعكس على الآخر صفاءً وراحةً وقوة.
