في عصر الشاشات والتواصل الرقمي الدائم، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذة عصرية على العالم، لكنها في الوقت نفسه مرآة قد تشوّه صورتنا الذاتية وتختلط فيها الحقيقة بالمثالية. للرجال ـ كما غيرهم ـ هذه المنصات تفتح أبوابًا للتواصل والترفيه، لكن أيضًا قد تضعهم تحت ضغط غير مرئي: مقارنة مستمرة، وتوقعات غير واقعية، وأحيانًا نقد أو تنمّر إلكتروني. في هذا المناخ، تصبح الصحة النفسية تحديًا حقيقيًا؛ لا غنى عنه وعلينا أن نواجهه بوعي.
في هذا المقال نبحث في تأثير وسائل التواصل على نفس الرجل، ونسعى لتقديم أسس للحفاظ على توازنه النفسي في زمن الإشعارات اللا متناهية.
كيف تؤثر وسائل التواصل على نفس الرجل؟
ضغوط المقارنة وصورة الرجل المثالي
من أهم الآثار النفسية لاستخدام وسائل التواصل أن المستخدم يُعرض بصورة مستمرة إلى صور «تُجسّد نجاح، جسم مثالي، حياة مترفة»، مما يولّد شعورًا داخليًا بأن الشخص — رغم إنجازاته أو واقعه — لا يرقى إلى ما يرى. هذه المقارنات قد تؤدي إلى انخفاض احترام الذات، شعور بالنقص أو الفشل، وربما الإحساس بعدم الجدوى. الدراسات الحديثة تشير إلى أن هذا الضغط الاجتماعي الرقمي يمكن أن يزيد من احتمال الاكتئاب والقلق لدى الرجال، خصوصًا أولئك الذين يميلون إلى المقارنة الدائمة أو يبحثون عن تحقيق معايير غير واقعية.

العزلة الافتراضية وتراجع العلاقات الحقيقية
رغم أن وسائل التواصل تفترض ربط الناس، إلا أن الاعتماد الزائد عليها قد يدفع البعض إلى تقليل التفاعل الواقعي. ساعات طويلة أمام الشاشة تُضعف الروابط الاجتماعية الحقيقية، ما يضاعف شعور الوحدة والعزلة، خصوصًا إن كان المحتوى تفاعليًا سلبيًا أو مثيرًا للضغط. استخدام مفرط لوسائل التواصل — خاصة في أوقات متأخرة من الليل — يرتبط بنوع من اضطراب النوم، التعب النفسي، وانحسار القدرة على التركيز، مما يعزز دوائر الاكتئاب والقلق.
صورة الذكورة المثالية وتحريم الضعف
في كثير من الثقافات، يُتوقع من الرجل أن يكون قوّيًا، صامدًا، قليل التعبير عن الضعف. وسائل التواصل تضيف طبقة من الضغط: صور «النجاح» أو «القوة» يمكن أن تكون مضللة، لكن تأثيرها على الرجل حقيقي. البحث أظهر أن الكثير من الرجال يشعرون بأن التعبير عن القلق أو الضعف قد يُنظر إليه على أنه ضعف. هذا الحاجز النفسي يمنعهم من طلب المساعدة أو حتى التحدّث عن مشاعرهم، ما يجعل الأزمات النفسية أكثر صعوبة وأعمق.

كيف توازن بين حضورك الرقمي وصحتك النفسية؟
اعتنِ بنوعية المحتوى وحريتك في الاختيار
لا تغرق في تيار لا نهاية له من المنشورات والصور والفيديوهات. اختر متابعات ترفع من معنوياتك: صفحات تهتم بالصحة، الإيجابية، التنمية الذاتية أو هوايات تحبها. تجنّب المحتوى الذي يثير المقارنات أو الشعور بالنقص، خاصة إن لاحظت أن مزاجك يتأثر بعد تصفح معين.
خصّص أوقات «صمت رقمي» دوري
من الجيد أن تضع وقتًا يوميًا أو أسبوعيًا بعيدًا عن الشاشات: للمشي، الرياضة، لقاء أصدقاء أو عائلة، هواية قديمة. هذا الانفصال مؤقت عن العالم الرقمي يريح ذهنك ويعيد تنسيق إيقاعك النفسي بعيدًا عن الدوامة الرقمية.
لا تخجل من طلب الدعم ولو عبر مختص
إذا شعرت بأن الأفكار سلبية تتكرر — قلق مستمر، صعوبة نوم، عزلة داخلية — فطلب المساعدة ليس ضعفًا بل علامة على الوعي. الحوار مع صديق موثوق، معالج نفسي، أو حتى مجتمعات دعم يمكن أن يخفّف العبء ويعيدك إلى توازنك الداخلي.
احرص على روتين يومي متوازن
نوم كاف، تغذية جيدة، نشاط بدني، وتقليل استهلاك الشاشات قبل النوم بساعة — كل ذلك يلعب دورًا مهمًا في دعم الصحة النفسية. الجسم والعقل مترابطان، ورعاية أحدهما تنعكس على الآخر.

ختاماً: وسائل التواصل الإلكتروني ليست عدواً بحد ذاتها، لكنها تضع في طريقنا تحديات نفسية — خصوصًا لمن لا يحسن ضبط إيقاعه الرقمي. لكن مع وعي بسيط، وضبط للعادات، ومعرفة بأن شعور القلق أو النقص ليس عيبًا، يمكن للرجل أن يعيش عصر التواصل مع نفسه ومع غيره بصدق، دون أن يفقد راحته النفسية. الصحة النفسية ليست رفاهية، بل أساس للحياة الجيدة… أنت تستحق أن تمنحها بنفسك أولًا.



