في اليابان، لا تنحصر الفوانيس في كونها أداة للإضاءة أو للزينة فحسب، بل هي رمزٌ حيّ للروحانية والجمال العابر للزمن. مع كل فانوس يُضاء في مهرجانات الفوانيس الليلية، تشرق قصص أسلافها، وأماني أهلها، ويولد شعور غامر بالسكينة والتقدير للجمال العابر. هذه المهرجانات، الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ليست مجرد مناسبات سياحية، بل احتفالات بالضوء والروح، تُبقي جذوة التراث الياباني متقدة عبر العصور.
مهرجان أكيتا كانتو: أعمدة الضوء الشاهقة
في مدينة أكيتا شمالي اليابان، يقام مهرجان كانتو كل أغسطس، حيث يرفع الرجال أعمدة هائلة مرصعة بمئات الفوانيس الورقية المضيئة في استعراض للقوة والتوازن والمهارة. يبلغ طول بعض هذه الأعمدة 12 مترًا ووزنها أكثر من 50 كغ، ويحملها المشاركون على أكتافهم أو جباههم أو راحات أيديهم، في استعراض مهيب يضيء ليل أكيتا الدافئ بأنغام الطبول والمزامير التقليدية.
يرمز هذا المهرجان إلى الدعاء بحصاد وفير وطرد الأرواح الشريرة، وقد أُدرج ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو عام 2016.

مهرجان أوماغاري للألعاب النارية: الفوانيس النارية في سماء توهوكو
في منطقة أوماغاري، يجتمع أشهر خبراء الألعاب النارية اليابانيين للتنافس بعروض ساحرة تحت سماء الصيف. ورغم أن جوهره الألعاب النارية، إلا أن الفوانيس الورقية المضاءة تزيّن ضفاف الأنهار حيث يجلس آلاف الزوار لمشاهدة العروض.
يمتزج وهج الفوانيس مع ألوان السماء المشتعلة، في مشهد يصعب نسيانه، يرمز للاحتفاء بالحياة والامتنان للطبيعة.
مهرجان تورو ناكاشيبوتسو: قناديل الماء الهادئة
في هوكايدو، يقام مهرجان تورو ناكاشيبوتسو الذي يتميز بتطيير الفوانيس المائية الهادئة في الأنهار. تكتب الأمنيات وأسماء الراحلين على الفوانيس الورقية قبل إطلاقها لتطفو مع التيار تحت سماء الغروب، في مشهد شاعري يجسّد فلسفة الحياة والموت والخلود في الثقافة اليابانية. إنه احتفال بالروحانيات أكثر منه مهرجانًا احتفاليًا صاخبًا.

مهرجان أوبون: الفوانيس طريق الأرواح العائدة
خلال شهر أغسطس من كل عام، تحتفل اليابان بمهرجان أوبون الذي يُعد من أهم المناسبات الروحانية. يعتقد اليابانيون أن أرواح الأسلاف تعود إلى منازلهم خلال هذه الأيام، لذا تضاء الفوانيس لإرشادهم إلى بيوتهم ولتوديعهم عند المغادرة عبر طقس تورو ناغاشي، حيث تُطلق آلاف الفوانيس المضيئة لتطفو بهدوء في الأنهار، حاملةً معها صلوات وسلامًا أبديًا للأرواح.
يعود تقليد أوبون إلى أكثر من 500 عام، ويجمع بين البوذية اليابانية والمعتقدات الشعبية المرتبطة بتقديس الأجداد.
مهرجان ناغازاكي لانترن: مهرجان الضوء الصيني بطابع ياباني
في ناغازاكي جنوب اليابان، تتلألأ المدينة بأكثر من 15 ألف فانوس صيني ضخم مضاء ضمن مهرجان ناغازاكي لانترن احتفالًا برأس السنة الصينية. الفوانيس هنا تتخذ أشكال تنانين وسلاحف وأسماك وكائنات أسطورية مضاءة بألوان نابضة، في تعبير عن التمازج الثقافي بين الصين واليابان الذي ميّز تاريخ ناغازاكي كميناء تجاري عالمي.

الفوانيس في الثقافة اليابانية: ما وراء الضوء
لا تقتصر رمزية الفوانيس على الإضاءة والزينة. فهي تجسد في الفلسفة اليابانية “التنوير الروحي”، ونور الأمل وسط ظلام الحياة، وتُستخدم في المعابد لإرشاد الأرواح.
كما تحمل طابعًا جماليًا فريدًا، حيث تُصنع من الخيزران والحرير أو الورق المصقول يدويًا، بتصاميم تقليدية تحاكي الطبيعة أو النقوش الأسطورية، ما يجعلها فنًا متوارثًا عبر الأجيال.
ختاماً… تضيء الفوانيس اليابانية ليل المدن والقرى من الشمال إلى الجنوب، لكنها تضيء أيضًا أرواح أهلها وزائريها. ففي كل فانوس مضاء تكمن فلسفة حياة، قصة أسرة، حلم طفل، وذكرى راحل. إنها احتفالات بالضوء، لكنها قبل ذلك احتفالات بالروح الإنسانية وقدرتها على تحويل حتى أبسط الأشياء إلى معانٍ عميقة وأبدية.