مهرجان السينما الوثائقية في لندن.. قصص رجال غيّروا العالم

في قلب العاصمة البريطانية، حيث تلتقي الثقافات وتتقاطع الرؤى، تحتضن لندن سنويًا سلسلة من المهرجانات الوثائقية التي لا تكتفي بعرض الأفلام كنوع من أنواع الفنون، بل كتجارب فكرية وإنسانية تغيّر النظرة إلى الواقع. وتتألّق السينما الوثائقية كنافذة على العالم، وكمنصة تسلّط الضوء على قصص رجال تركوا بصمتهم في مجتمعاتهم والعالم بأسره، من خلال عرض أفلام تسرد حكاياتهم في تغيير مجرى التاريخ، سواء في السياسة، العلوم، الفن، أو النضال الاجتماعي.

LIDF: منصة للحوار والتغيير

يُعد مهرجان لندن الدولي للأفلام الوثائقية (LIDF)، الذي يُقام سنويًا، من أبرز الفعاليات التي تحتفي بالأفلام الوثائقية وتركّز من خلالها على القضايا الاجتماعية والثقافية من خلال عدسة السينما غير الروائية.

يتميّز المهرجان بتنظيمه لحوارات ومناقشات بعد العروض، يشارك فيها مفكرون وصنّاع أفلام ونشطاء، مما يخلق مساحة للتفاعل والتفكير النقدي، ويمنح الفيلم الوثائقي بعدًا حيًا وتفاعليًا.

Doc.London: تجسيد لتجارب الرجال المؤثرين

يُعتبر مهرجان Doc.London جزءًا من شبكة Doc.World العالمية. قدم المهرجان مجموعة متنوعة من الأفلام الوثائقية التي تستعرض قصصًا حقيقية لرجال واجهوا تحديات كبيرة وساهموا في إحداث تغييرات ملموسة، لتعكس من خلالها أوجهًا مختلفة لتجربة الرجل في العالم المعاصر.

من بين هذه الأفلام، نجد أعمالًا تتناول مسيرات رجال في مجالات مثل التعليم، الصحة، والبيئة، مما يعكس تنوّع وتأثير الرجولة في مختلف القطاعات.

من بين الأفلام الوثائقية التي عُرضت في مهرجانات مثل Doc.London وLIDF، نبرز قصصًا تعكس تجارب رجال ملهمين ومسارات مختلفة من التأثير والتغيير، حيث كانت هناك أعمال تسلّط الضوء على رجال قادوا حركات تغييرية في مجتمعاتهم، مثل نشطاء حقوق الإنسان وقادة المجتمعات المحلية.

• “Once Upon a Time in Venezuela” – للمخرج أنيبال أوتشوا، الذي وثّق ببراعة تدهور إحدى القرى النهرية، كاشفًا كيف تؤثر السياسات الكبرى على حياة الأفراد البسطاء.
• “The Mind Game” – للمخرج البريطاني سام كوين، والذي تناول قصة رجل نجا من تجربة متطرفة في معتقل خارج القانون، وتحول إلى ناشط مناهض للتعذيب.
• “Missing from Fire Trail Road” الذي يدور حول قصة رجل مصمم على تحقيق العدالة في قضية اختفاء فتاة من السكان الأصليين في الولايات المتحدة في تحدٍ للسلطات والبيروقراطية. يعكس الفيلم قوة العزيمة وأثر الجهد الفردي في التغيير المجتمعي.

• “Prison is Cool” للمخرج إيليا راندرينايفو، الذي يروي قصة رجل كان جزءًا من جماعة متطرفة ويبدأ رحلة مراجعة للذات ومحاولة التكفير عن الماضي. حيث تتبع الكاميرا رحلة هذا الرجل، مستعرضة تحوله الشخصي وإعادة بناء ذاته بعيدًا عن العنف، مما يبرز قدرة الإنسان على التغيير والتصالح مع الماضي.
• “Holding On” للمخرجة إيما كروفت، الذي يستعرض ديناميكية العلاقة بين أم وابنها خلال مرحلة البلوغ، من منظور الأم، لكنه يرسم بحساسية كبيرة التحولات النفسية في شخصية الفتى.

كذلك تضمّن البرنامج أفلامًا من إخراج رجال شباب صاعدين، مثل فيلم “Into the Dust” للمخرج جاك نولان، الذي يتناول كفاح طبيب أفغاني في المناطق النائية، ويكشف هشاشة البنى الصحية في بيئات الصراع.

Open City: نافذة على السينما الوثائقية المعاصرة

عادت العاصمة البريطانية لتكون مسرحًا لمهرجان Open City Documentary Festival، الذي يركّز على التجريب وتوسيع حدود اللغة السينمائية الوثائقية، مقدّمًا أعمالًا بصرية وصوتية تتحدى القوالب التقليدية.

ما يميّز Open City هو انفتاحه على وسائط متعددة مثل الوثائقيات التفاعلية والفيديو آرت، إلى جانب دعمه للمواهب الشابة. في هذه الدورة، برزت أعمال مثل:

• فيلم “The Athlete’s Way” يتناول سيرة رياضي بارز تحدى المصاعب للوصول إلى قمة نجاحه، وأعاد تشكيل مسيرته بعد إصابة كادت أن تنهي مستقبله، ليصبح رمزًا للمثابرة ومصدر إلهام لجيل جديد من الشباب الطامح، مع التركيز على الانضباط والإرادة التي شكلت رحلته المميزة.
• فيلم “Trailblazers: Stories of Entrepreneurs” الوثائقي لبذي يقدم سردًا لقصص رجال أعمال ورواد أعمال استطاعوا تحويل ظروفهم القاسية إلى قصص نجاح ملهمة، وتمكنوا من ابتكار مشاريع غيرت وجه مجتمعاتهم، مؤكداً دور الابتكار والشجاعة في تحقيق التأثير الاقتصادي والاجتماعي، ما يعكس قوة الرؤية والإرادة في عالم ريادة الأعمال.
• “A House in Pieces” للمخرجين جيم روكا وماثيو أورسيلو، الذي يحكي قصة رجل يعود إلى مدينته المدمّرة بعد النزاع، محاولًا ترميم ما تبقى من منزله وذكرياته.

تمثل هذه المهرجانات فضاءً حيًّا لاكتشاف سرديات مبتكرة، وهو يضع في صلبه الإنسان، بتعقيداته وتحوّلاته، ويمنح صوتًا لأولئك الذين غالبًا ما يُقصون من السرديات السائدة.

بين الرجولة والتأثير: عين على الغد

ما يجمع هذه المهرجانات ليس فقط نوعية الأفلام، بل قدرتها على التقاط جوهر الرجولة بصورها المختلفة، رجولة تحمل همًا، وتطرح تساؤلات، وتعيد تعريف القوة كقدرة على الإصغاء والتغيير. بالنسبة للرجل الذي يسعى إلى ما هو أعمق من الترفيه، فإن السينما الوثائقية تقدم له فرصة للتأمل في العالم، وربما في ذاته، من زاوية لم يسبق له النظر منها.

توفر مهرجانات السينما الوثائقية في لندن فرصة فريدة للتعرّف على قصص رجال غيّروا العالم بطرق مختلفة. من خلال هذه الأفلام، يتمكن الجمهور من فهم أعمق لتجارب هؤلاء الرجال، والتعلّم من رحلاتهم الملهمة. إنها دعوة لكل من يسعى لاكتشاف نماذج رجالية حقيقية تركت أثرًا لا يُنسى في التاريخ.