معرض مكننة في السعودية: أيقونة الفن الرقمي تحت المجهر

في مركز الدرعية لفنون المستقبل، ينبض معرض مكننة: أركيولوجيا فنون الوسائط الجديدة في العالم العربي” بأجواء تجمع بين الآلة والفن والهوية. المعرض، الذي انطلق في 21 أبريل ويستمر حتى 19 يوليو 2025، يقدم قراءة استثنائية حول العلاقة المتغيرة بين الفنان العربي والوسائط التكنولوجية.

والمعرض لا يقتصر على عرض أعمال فنية، بل هو تجربة بصريّة وفكرية تُعيد التفكير في دور التكنولوجيا كأداة تعبيرية.

المشهد الرقمي يتشكّل عبر أربعة محاور

يستند المعرض إلى أربعة محاور رئيسية تشكّل بنيته المفاهيمية وتوجهه الفني: المكننة، الاستقلالية، التموجات، والغليتش. هذه ليست مجرد تسميات تجريدية، بل هي عدسة نقدية لتحليل تطوّر الوسائط الفنية في العالم العربي، ومدى تأثير التكنولوجيا على خطاب الفن الحديث.

1- المكننة

لا تعني فقط دخول الآلة إلى فضاء الفن، بل تشير إلى اللحظة التي تتحوّل فيها الأداة إلى شريك إبداعي. هنا، المكننة تتجاوز الدور التنفيذي إلى دور تشكيلي، حيث تسهم الآلة في صياغة الفكرة والأسلوب، كما في أعمال الذكاء الاصطناعي التي تُنتج أنماطًا بصرية تتجاوز قدرات الفنان وحده.

2- الاستقلالية

تُسلّط الضوء على العلاقة الجديدة بين الفن والبرمجيات. الأعمال المعروضة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي أو الخوارزميات الذاتية تُنتج نفسها لحظة بلحظة. فهي لا تُمثّل فكرة سابقة، بل تنمو وتتطوّر أمام المُشاهد، ما يعكس تغييرًا في دور الفنان: من منتج إلى ميسّر.

3- التموجات

تُعبّر عن التقلّبات التقنية والثقافية التي شكلت الوسائط الرقمية منذ التسعينيات حتى اليوم. يشير المحور إلى كيف تصدّر الفن الرقمي القضايا الاجتماعية والسياسية، وارتبط بالتقلبات الاقتصادية، من ثورات التكنولوجيا حتى الويب 3.0.

4- الغليتش

وهو مفهوم بصري وفلسفي، حيث يتحوّل الخطأ التقني (كالتشويش أو العطل البرمجي) من خلل إلى استراتيجية فنية. كثير من الفنانين في المعرض يستخدمون هذا “الانكسار” الرقمي لإعادة التفكير في مفاهيم مثل الصدق، التشويش، والتحكّم، مما يطرح أسئلة عن جماليات الفوضى والصدفة في عصر الخوارزميات الدقيقة.

تُمثّل هذه المحاور الأربعة منظومة متكاملة تعيد بناء علاقة الإنسان بالتقنية في العالم العربي من موقع فني نقدي وليس مجرد استهلاكي.

نخبة فنية تجمع أكثر من 40 صوتًا عربيًا

يمثل معرض “مكننة” تظاهرة ثقافية فريدة، إذ يجمع أكثر من 40 فنانًا من 10 دول عربية، ما يجعل منه مرآة لواقع الفن الرقمي العربي المعاصر. من السعودية، يشارك فنانون رائدون مثل أحمد ماطر، الذي استخدم الصور الشعاعية الطبية في تركيب بصري يربط الجسد بالآلة، ومهند شونو، المعروف بأعماله التي تدمج الخيال العلمي بالهوية الثقافية.

من مصر، نجد تجارب تدمج بين السينما التجريبية والفن التركيبي مثل أعمال هاشم رفعت، فيما تبرز من لبنان وفلسطين مقاربات سياسية لفن الوسائط الجديدة، خاصة في استخدام الأرشيف الرقمي والذكاء الاصطناعي لإعادة تمثيل التاريخ.

ومن الإمارات والمغرب، تتركّز المساهمات على البيئة الرقمية كحقل شعري، باستخدام عناصر الواقع الممتد والواقع المعزز لخلق عوالم موازية تتداخل فيها الطقوس والرموز مع التكنولوجيا.

هذه التعددية الجغرافية والفنية لا تُظهر فقط مدى انتشار الوسائط الجديدة، بل تكشف عن تباين في الأساليب والرؤى، وتقدم مشهدًا غنيًا يتراوح بين التحليل النقدي والتجريب البصري، مما يمنح الزائر تجربة تفاعلية تلامس البُعد المعرفي والجمالي في آن.

أركيولوجيا الوسائط: الحفر في ذاكرة التكنولوجيا

الوصف الذي يحمله المعرض كـأركيولوجيا فنون الوسائط الجديدة ليس مجازًا، بل عنوان لمهمة فكرية دقيقة. فهو يسعى إلى التنقيب عن الطبقات التي بنت العلاقة بين الفن العربي والتكنولوجيا منذ بداياتها، وليس فقط الاحتفال بالمظاهر البراقة للوسائط الحديثة.

المقصود بالأركيولوجيا هنا هو العودة إلى الأصول الرقمية: من الأقراص المدمجة الأولى التي استخدمت كوسيط فني، إلى أرشيفات الإنترنت، وحتى كودات البرمجة اليدوية التي سبقت منصات الذكاء الاصطناعي. إنه حفر معرفي في أركيف بصري/تفاعلي، يُسلّط الضوء على الطرق التي كوّنت بها الآلة ذاكرتنا، وأعادت رسم سردياتنا، وأنتجت تمثيلات بديلة عن التاريخ والهويّة.

يقدّم هذا النهج أيضًا تأمّلًا نقديًا في كيفية استخدام المجتمعات العربية للتقنية، ليس فقط كأداة استيراد، بل كأداة مقاومة، إعادة تفسير، أو خلق سرديات بديلة تتجاوز المركزية الغربية.

ما بعد معرض مكننة: نحو عصر تكنولوجي بوعي إنساني

بين كل هذه التجارب المتنوعة، تبرز أسئلة المستقبل: إلى أين تتجه الممارسات الفنية في العالم العربي بعد “مكننة”؟ هل سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة إضافية في يد الفنان، أم شريكًا كاملاً في صناعة المفهوم؟ وهل سيتحول الحضور الجسدي في المتحف إلى خيار ثانوي أمام العوالم الافتراضية؟

“مكننة” لا يقدم أجوبة نهائية، بل يفتح بابًا نحو تأمل عميق في العلاقة المتقلّبة بين الفنان، والمجتمع، والآلة. إنه يذكّرنا بأن التقنية ليست حتمية باردة، بل فضاءٌ أخلاقي وثقافي يتشكّل وفق اختياراتنا. ففي العالم العربي، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع أسئلة الهوية، والتمثيل، والانتماء، يصبح الفن الرقمي وسيلة لاستعادة الذات ليس لفقدانها.

وربما تكمن قوة المعرض في أنه لا يعرض فقط أعمالًا رقمية، بل يعرض فكرة الفن نفسه كمنصة فكرية مفتوحة. فمن “ما بعد مكننة”، قد يولد نموذج جديد للفن العربي: نموذج لا ينحاز للتقنية بوصفها هدفًا، بل يوظفها وسيلة لإعادة اكتشاف الإنسان.

الدرعية: موقع تاريخي يلتقي المستقبل

اختيار مركز الدرعية لفنون المستقبل كمنصة لهذا المعرض يحمل بعدًا رمزيًا عميقًا. فهذه المنطقة التاريخية، ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، تمزج بين الأصالة والمستقبل. إنه التقاء بين هويتين: ماضٍ ثقافي عميق، ومستقبل رقمي متجه نحو الآفاق

برنامج تفاعلي… يفتح أبواب الحوار والتجربة

إلى جانب الأعمال الفنية، يدير المعرض برنامجًا ثقافيًا غنيًا يتضمن:

  • ندوات حوارية مع فنانين ومفكرين في مجال الوسائط الجديدة.
  • عروض أداء شكلية تجمع بين الصوت والصورة.
  • ورش عمل تتيح للزوار تجربة أدوات الفن الرقمي بأنفسهم.

عروض أفلام تتناول ثيمات الأرشفة الرقمية والغليتش والتفاعل بين الإنسان والآلة، هذا الدمج بين التفاعل الفني والنقاش الفكري يجعل المعرض مساحة نابضة للحوار الثقافي وملتقى لصناع المستقبل.

شارك على: