لم يكن ليوناردو دافنشي فنانًا فقط، بل كان موسوعة بشرية بحد ذاتها. رسام، نحات، مهندس، فيزيائي، ومخترع… رجل سبقت أفكاره عصره بعدة قرون. احتفت برلين بهذه العبقرية في معرض فريد من نوعه لا يكتفي بعرض أعماله، بل يحاول أن يفتح للزائر نافذة إلى طريقة تفكيره، طموحاته، وفضوله الذي لا يشبع.
المعرض ليس متحفًا… بل آلة سفر عبر الزمن
أعاد هذا المعرض تشكيل العالم الداخلي لدافنشي باستخدام تقنيات الواقع المعزز، والشاشات التفاعلية، والنماذج ثلاثية الأبعاد. لا يتجوّل الزائر بين جدران صامتة، بل يتنقّل بين محطات تفاعلية تحمله من حلم إلى اختراع، ومن خط مرسوم على ورق إلى آلة مصممة بدقة. فدافنشي لم يكن يرسم فقط، بل كان يبتكر مفاهيماً علمية، ويترجمها إلى صور وفكر وتصميم.
من خلال خوذات الواقع الافتراضي، يمكن للزوار أن يدخلوا رسوماته الهندسية كما لو كانوا يسيرون داخلها، يتجوّلون بين عناصرها، ويكتشفون كيفية عملها. ليشعروا بأنهم دخلوا بالفعل عقلَ دافنشي، ما يتيح لهم فهم العمق الهندسي والفلسفي وراء كل تصميم، وكأنهم يقرؤون أفكاره.

دفاتر دافنشي… كنوز لا تقدر بثمن
ركّز أحد المحاور الأساسية في المعرض على “كودكس أتلانتيكوس”، أحد أشهر دفاتر دافنشي التي دوّن فيها أفكاره خلال سنوات طويلة. حيث عرض المعرض نسخًا رقمية منها، وأتاح للزائر تقليب الصفحات وتكبير المخططات، بل والاستماع إلى شرح صوتي لفهم بعض أفكاره، بما في ذلك أفكار لم تُنفّذ أبدًا في زمانه، ولكنها كانت الأساس النظري لاختراعات ظهرت بعد قرون.
تمثّل هذه الدفاتر ذاكرة عبقري حقيقية، إذ تحتوي على آلاف الرسومات والملاحظات التي تغطي كل شيء من تشريح جسم الإنسان، إلى تصاميم الجسور، مرورًا بتقنيات الرسم، وملاحظات فلكية، وتجارب علمية كان يُجريها في خياله. هذه القفزات بين المواضيع لا تشير إلى فوضى فكرية، بل إلى عقل متّقد لا يتوقف عن ربط العِلم بالفن والخيال بالواقع. يُبرز المعرض كيفية تدوينه للأفكار في هوامش ضيقة، بلغته الخاصة (الكتابة المعكوسة)، وكأنها رسائل سرّية لنفسه أو لأجيال قادمة.


عبقرية في خدمة الجمال والوظيفة
لا يكتفي المعرض بإظهار دافنشي كمفكر أو فنان، بل يُعيد التأكيد على فلسفة تصميمه: الجمال يجب أن يكون وظيفيًا، والوظيفة لا تكتمل دون إحساس بالجمال. هذه الثنائية الفلسفية المتكاملة بين الفن والعلوم تظهر هنا كنقطة محورية في مسيرته، وتبدور بوضوح في إعادة إنتاج بعض آلاته: أناقة هندسية، مع بساطة متقنة، لا تعكس فقط مهارة تقنية، بل حسًّا جماليًا رفيعًا كان يحكم كل خط وكل تفصيلة في تصاميمه.
في زاوية أخرى، نكتشف كيف نقل دافنشي هذه الرؤية إلى أعماله الفنية، خصوصًا في لوحاته الشهيرة التي لم تكن فقط رسومات جميلة، بل كانت دراسات بصرية للضوء والتكوين وحتى التشريح، فهناك مساحة مخصصة لفنه التشريحي، تعرض كيف قام بتشريح الجثث ليفهم تفاصيل الجسم البشري، وهو ما جعله أحد أوائل من قدّموا رسومات دقيقة للأعضاء الداخلية، وسبق بها الطب الحديث.


تجربة تعليمية وترفيهية لكل الأعمار
الملفت أيضًا في هذا الحدث هو قدرته على مخاطبة شرائح متعددة من الجمهور دون أن يفقد عمقه. فالأطفال، مثلًا، لن يجدوا أنفسهم في معرض مغلق يعجّ بالنصوص، بل في ساحة تعليمية تفاعلية تُشركهم من خلال اللعب والتجريب. بإمكانهم تركيب نماذج، أو تشغيل آلات، أو الرسم باستخدام أدوات مستوحاة من أسلوب دافنشي.
أما المراهقون وطلاب الفنون والهندسة، فسيجدون في المعرض مادة غنية للإلهام والتحليل، إذ يقدم لهم رؤية فنية علمية شاملة نادرًا ما تُتاح بهذه الكثافة. يمكنهم مقارنة تصاميم دافنشي بمفاهيم حديثة، وفهم كيف أن أفكاره مهّدت لأجيال من الابتكارات.
وللكبار والمثقفين، يقدّم المعرض محتوى معمقًا وموثقًا يعرض وثائق رقمية نادرة، وتحليلات علمية لبعض تصاميمه، إضافة إلى شروحات صوتية بلغات عدة تسلط الضوء على خلفيات كل عمل.

دافنشي: أكثر من عبقري
نجح المعرض في إعادة رسم صورة دافنشي بعيدًا عن الكليشيهات: ليس مجرّد رسّام عظيم أو مخترع سابق لعصره، بل عقل إنساني شامل لا يشبه غيره، يرى العالم وحدةً متكاملة، ويجد في كل تفصيلة من الحياة فرصة للتأمل والتطوير.
وربما هذا هو الدرس الأهم الذي يقدّمه الحدث: أن العبقرية لا تنحصر في مجال واحد، بل تنشأ من فضول دائم، وشغف لا ينطفئ، وقدرة نادرة على تحويل الحلم إلى خطة، والفكرة إلى آلة، والخطّ إلى أثر خالد.