رحلة ثقافية إلى متحف الفيروسات الرقمية في هلسنكي

في قلب العاصمة الرقمية: تجربة لا تشبه غيرها، وهذه الرحلة لا تشبه زيارتك لأي متحف تقليدي. في هلسنكي، المدينة التي تحتضن التكنولوجيا كجزء من نسيجها اليومي، وُلد متحف خارج المألوف، يقدّم تجربة ثقافية فريدة من نوعها، تجمع بين الأمن السيبراني، والفن المعاصر، والتاريخ الرقمي.

متحف الفيروسات الرقمية ليس فقط عرضًا لمسارات التهديدات الإلكترونية، بل هو محاولة ذكية لإعادة تعريف الفيروسات ككائنات تحمل رمزية ثقافية، وأحيانًا، جمالية مرعبة. هنا، تتحول البرمجيات الخبيثة إلى أعمال فنية، وتصبح الشاشة وسيلة تأمل، لا مجرد وسيلة دفاع.

أكثر من عرض تقني… هذا فن

ما إن تدخل إلى المتحف، حتى تشعر أنك وسط تجربة حسية مدروسة. الإنارة الخافتة، المؤثرات الصوتية المستوحاة من ترددات رقمية، والأسطح التي تتفاعل مع حركتك، جميعها تنقلك إلى فضاء إلكتروني حيّ.

من الأعمال اللافتة، نجد “انقر من أجل الحب”، وهو تركيب بصري يستحضر فيروس ILOVEYOU الشهير الذي اجتاح العالم سنة 2000. هنا، لا يُقدَّم الفيروس كتهديد فحسب، بل كرمز ثقافي لحالة من الهشاشة الرقمية والانقياد العاطفي خلف النقرات.

وفي عمل آخر بعنوان “W/Threatscape”، تُتاح للزائر تجربة التقاط تهديدات حية من قاعدة بيانات فعلية، باستخدام إشارات يديه فقط. التجربة تجمع بين الذكاء الاصطناعي، البيانات الفورية، والإبداع الفني.

التاريخ الرقمي يتحول إلى سرد بصري

يسرد المتحف بأسلوب غير مباشر كيف تطورت البرمجيات الخبيثة منذ ظهور أول فيروس DOS وحتى اليوم. لكنه لا يفعل ذلك بلوحات توضيحية أو رسوم بيانية. بدلًا من ذلك، يقدم مجسمًا عنكبوتيًا تحت اسم “أرانيومورف” يرمز لبرمجيات الفدية، مزود بكاميرا في كل زاوية، وكأننا محاصرون بمراقبة لا تنام.

برمجيات الفدية (Ransomware) هي أحد أخطر أشكال الهجمات السيبرانية، إذ تقوم بتشفير بيانات المستخدم أو إقفال جهازه بالكامل، لتطالبه لاحقًا بدفع فدية مقابل فك القفل أو استرجاع الملفات. ولأنها تمثّل الخوف من فقدان السيطرة الرقمية، فهي تُجسَّد هنا كعنصر بصري فائق التأثير: آلة تزحف وتتربص، تخطف الحرية وتبتز الثقة.

ويستعرض عمل فني آخر بعنوان “Industroyer Panels” تأثير أحد أخطر الفيروسات الإلكترونية على البنية التحتية الأوكرانية، حيث يتحول الهجوم السيبراني إلى تعبير بصري يجمع بين التقنية والحرب.

هذه الأعمال لا تعرض فقط التهديد، بل تفتح بابًا لفهم أوسع للسلوك البشري والتكنولوجيا: لماذا نُخترق؟ ما علاقتنا بالتحكم؟ وهل فقدنا السيطرة على ما بنيناه؟

ثقافة الأمن الرقمي… ولكن بلغة الفن

يتعامل المتحف مع البرمجيات الخبيثة كجزء من النسيج الثقافي لعصرنا، ليس كظاهرة عابرة. الفكرة الجوهرية هنا هي تحويل الخوف الرقمي إلى معرفة تفاعلية. وهذه المعرفة لا تُقدّم في قوالب تقنية، بل عبر الفن والتجربة والمشاعر.

هذا المتحف لا يقدّم أجوبة سهلة، بل أسئلة كبيرة. فهو لا يعرض فقط كيف تعمل البرمجيات الخبيثة، بل لماذا ظهرت؟ كيف أثّرت في سلوك المجتمعات؟ وما الذي تعكسه عن هشاشة حضارتنا الرقمية؟

ملاحظات خاصة لصيف 2025 وتجربة التفاعل المباشر

تجدر الإشارة إلى أن المتحف سيكون مغلقًا بالكامل بين 1 يوليو و1 أغسطس 2025، بحسب ما أعلنت عنه الجهة المنظمة WithSecure. كما شهد المتحف منذ افتتاحه دعوات فنية مميزة للجمهور، مثل التبرع بفأرات حاسوب قديمة لصناعة عمل بصري مستوحى من فيروس ILOVEYOU، بالإضافة إلى مشاركته البارزة في فعالية SPHERE25 في هلسنكي، التي تجمع بين الأمن السيبراني والفن التفاعلي.

من اللافت أن بعض التركيبات الفنية تتيح للزوار المشاركة المباشرة في إنتاج الفن، عبر تفاعلات لحظية تعتمد على بيانات تهديد حقيقية، كما في تجربة “W/Threatscape” التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء لحظة الهجوم الرقمي.
كل ذلك يجعل من المتحف مساحة حيّة، لا تُعرض فيها الفيروسات فقط كأثر رقمي، بل كمرايا تعكس علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، بالسلطة، وبالخوف نفسه.

موقع التجربة ومواعيدها

افتُتح المتحف في نوفمبر 2024 داخل مجمع “Wood City” في منطقة Jätkäsaari الحديثة بهلسنكي، وهو من تنظيم شركة WithSecure، المتخصصة بالأمن السيبراني.

زيارة المتحف مجانية، وتُتاح أيام الجمعة من الساعة 12:00 حتى 16:00، مع إمكانية الحجز المسبق في أوقات أخرى.
الموقع الرسمي يوفّر معلومات إضافية حول المعارض المؤقتة وورش العمل المرتقبة.

زيارة غير اعتيادية لرجل غير اعتيادي

إنها ليست رحلة للاستجمام أو الاسترخاء، بل لمحبي التفكير النقدي، لهواة الثقافة الرقمية، ولمن يفتشون عن تجارب تثير العقل قبل الحواس. متحف الفيروسات الرقمية يقدّم للرجل العصري فرصة لفهم عالمه الرقمي من منظور فني وإنساني في آنٍ واحد.

هلسنكي كانت دائمًا وجهة غير تقليدية، وهذا المتحف يضيف سببًا جديدًا لزيارتها… رحلة ثقافية تغوص في قلب المستقبل، من بوابة الفيروسات.

شارك على: