لم تعد المتاحف اليوم مجرد مرايا للماضي، بل تحولت إلى نوافذ تطلنا على الغد. فهي لا تهتم بمجرد عرض القطع القديمة، بل باتت تعمل على إعادة صياغة دورها كمراكز تعليمية، وابتكارية، وتفاعلية، وحتى تحفيزية للنقاش حول المستقبل. إليك كيف يتبلور هذا التحوّل العالمي:
التجارب الغامرة التي تدمج العالمين الواقعي والرقمي
لم تعد المتاحف الحديثة تكتفي بعرض القطع والتحف خلف الزجاج، بل بدأت تعتمد على تقنيات تدمج بين العالمين الواقعي والافتراضي لتقديم تجارب حسّية وعاطفية في آن. فبدلًا من الاكتفاء بمشاهدة لوحة، يمكن للزائر أن يدخل إلى عمقها من خلال تقنية الواقع المعزز (AR) أو الواقع الافتراضي (VR). هذه الوسائط لا تضيف فقط طبقة مرئية، بل تخلق تفاعلاً ديناميكيًا مع المحتوى.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك متحف TeamLab Borderless في طوكيو، الذي يدمج بين الفن الرقمي والحركة الجسدية، بحيث تصبح التجربة فريدة لكل زائر على حدة. وفي متحف “The Museum of the Future” في دبي، يستخدم الذكاء الاصطناعي والتصميم الغامر لاستشراف ملامح الحياة بعد خمسين عامًا، مع منصات تفاعلية تستجيب للزائر مباشرة، وتدعوه لتخيل دور الإنسان في المستقبل.

متحف المستقبل: صرح معماري يؤسس لتعليم قصص الغد
من أبرز الرموز المعمارية يأتي متحف المستقبل في دبي، بتصميمه الدائري الرائد من دون أعمدة داخلية، ومقصوره الداخلي المتقاطع مع الستة طوابق بأنظمة حسّية ذكية. كل طابق يحمل موضوعًا: من محطات الفضاء إلى الذكاء الاصطناعي، مروراً بالاستدامة والعافية، وصولاً إلى البرامج العائلية.
يدعو المتحف زواره للمشاركة المباشرة، فالأرضيات تتفاعل بالحركة، والأنظمة البيئية الرقمية تتأثر بخيارات الزائرين؛ كما أن الطاقة تأتي من مصادر شمسية، ومياه الصرف تُعاد تدويرها لري المساحات الخضراء المحيطة.
القصص تُعاش بدل أن تُعرض
تخلّت المتاحف الجديدة عن دورها التقليدي كحافظ للتاريخ فحسب، لتتحوّل إلى رواة قصص، بل وشركاء في صنعها. التجربة لم تعد أحادية الاتجاه، بل أصبحت المتاحف تبحث عن إشراك الزائر في السرد.
ففي متحف V&A East Storehouse في لندن، يُسمح للزائرين بلمس المواد الأصلية، والاطلاع على مراحل الترميم، والمشاركة في ورش حية مع الفنانين. وفي متحف MUSo في الهند، يتم تشجيع الزوار على التفاعل مع مفاهيم متعلقة بالعدالة الاجتماعية أو التغير المناخي من خلال مشاريع فنية يساهمون في تشكيلها.
هذا النوع من المتاحف يوسّع مفهوم الثقافة، ويجعلها أداة تفكير لا مجرد تأمل، ليصبح الزائر جزءًا من الحوار لا مجرد متفرج.

المتاحف الصغيرة–الذكية في الأحياء: المعرفة في متناول الجميع
بالتوازي مع المتاحف الكبرى، ظهرت مؤخرًا متاحف صغيرة الحجم، ولكن كبيرة بالأثر، تُعرف بـ”Micro Museums”. هذه المبادرات تنتشر في الأحياء والفراغات العامة، وتقدّم معارض متنقلة أو رقمية تهدف إلى كسر الحواجز الجغرافية والاجتماعية أمام الثقافة.
يمكن أن يكون أحدها كشكًا رقميًا يعرض صورًا متغيرة يوميًا، أو حافلة تجوب المدارس وتعرض قطعًا فنية عبر شاشات تفاعلية.
الهدف هنا ليس استعراض القطع التاريخية، بل تقديم محتوى معرفي مرن وسريع وممتع يناسب إيقاع الحياة اليومية في المدن. بعض هذه المتاحف تُدار بمشاركة المجتمع المحلي، مما يمنحها بُعدًا اجتماعيًا حميمًا ويخلق شعورًا بالانتماء الثقافي.

تحولات ملموسة: أكثر من مجرد تصاميم مستقبلية
لم تعد حداثة المتاحف تقف عند حدود هندستها المعمارية أو واجهاتها الزجاجية الانسيابية، بل باتت تظهر في عمق التجربة التي تقدمها لزوارها، وفي الطريقة التي تدعوهم بها لاكتشاف المعرفة من الداخل.
في Cleveland Museum of Art، تشكل منصة ArtLens مثالًا لافتًا على هذه النقلة النوعية في عرض الفن. فهي ليست مجرد شاشة، بل مساحة تفاعلية ذكية تتيح للزوار استكشاف الأعمال الفنية بناءً على اللون، أو الشكل، أو حتى الحالة الشعورية التي يريدونها. تُمكنك الشاشة من “تجميع” أعمال فنية من فترات وثقافات متعددة ضمن سردك الشخصي، فتتحول الزيارة إلى رحلة فردية ومرحة تربط بين الحاضر والماضي بأسلوب إبداعي لا ينسى.
أما في The Tech Interactive في مدينة سان خوسيه الأميركية، فإن التكنولوجيا ليست مجرد أداة، بل مادة خام تُصاغ منها التجربة. يُشجع الزوار على التفاعل مع معروضات تدمج بين الروبوتات، والواقع المعزز، والتصميم البيولوجي، مثل تجربة بناء نماذج ثلاثية الأبعاد لأجهزة طبية أو أدوات مساعدة. وفي إحدى التجارب، يمكن للأطفال تعديل جينات حيوية في نماذج افتراضية، ما يعزز لديهم مفهوم الابتكار والاستدامة من عمر مبكر.
وفي الطرف الآخر من العالم، يقدّم ACMI (مركز الصور المتحركة الأسترالي) في ملبورن مختبرًا رقميًا يُعدّ الأول من نوعه في القارة. هنا لا يكتفي الزائر بمشاهدة تاريخ السينما، بل يدخل في ورشة تفاعلية تُمكّنه من تحريك الشخصيات، وتسجيل الأصوات، وخلق فيلمه القصير الخاص. تمزج هذه التجربة بين الترفيه والتعليم وتزرع في الزائر حسًّا نقديًا حول كيفية بناء السرد البصري.

إنها متاحف لا تكتفي بإبهار الزائر، بل تشركه وتمنحه أدوات التعبير. وهي بذلك تعيد تعريف معنى الثقافة: ليست ما يُعرض على الجدران فقط، بل ما ننتجه نحن أيضًا.
عندما تصبح المتاحف محركات للمستقبل
اليوم، ما يميّز متاحف الغد هو رغبتها في تحويل الزائر من متلقٍ إلى مشارك. فالمتحف لم يعد مكانًا للتمرير السريع أو الالتقاطات السطحية، بل منصة للتفكير الجماعي، والتعليم العملي، وللتجربة الحية.
بذلك، يكسر المتحف حدوده التقليدية، ويكرّس دوره كمساحة اجتماعية للمشاركة، الابتكار، وتشكيل فهم مشترك مع الزائرين.