تحتضن جدة التاريخية هذا العام نسخة متجددة من فعالية “بلد الفن 2025″، التي تستمر حتى منتصف يونيو، وتُعد من أبرز المنصات التي تسلط الضوء على الذاكرة الفنية والحِرَفية للمملكة.
يقام الحدث في قلب حي البلد، داخل بيوت تراثية خضعت للترميم، ليُقدَّم من خلالها محتوى فني وتوثيقي يعكس مراحل تطور الفن السعودي الحديث. بعيدًا عن الطابع الاحتفالي العابر، تأتي هذه النسخة لتوثّق، وتُعرّف، وتعيد قراءة تجارب فنية راسخة بأسلوب معاصر.
الفن كعنصر تنشيط حضري
منذ انطلاقه في أبريل 2025، يواصل مشروع “بلد الفن” في جدة إثبات دوره كمبادرة ثقافية متكاملة تتجاوز إطار المعارض المؤقتة. تستضيف الفعالية عددًا من البيوت التراثية الحجازية، من بينها بيت نصيف وبيت فاطمة نوارة، حيث أُعيد توظيف هذه المباني التاريخية كمواقع فنية تعرض أعمالاً معاصرة تعكس تحولات المجتمع السعودي.
لا تكتفي هذه الفضاءات بعرض المحتوى، بل تشارك فعليًا في إنتاجه من خلال ارتباطها بسياق المكان والذاكرة. وهو ما يمنح الزائر تجربة متعددة الأبعاد، تجمع بين العمارة التقليدية، والمواد الفنية، والسرد البصري لمراحل التحديث الثقافي في المملكة.

الاحتفاء برموز فنية سعودية تُروى من جديد
في بادرة تحمل طابع التوثيق والتكريم، تتصدر أعمال الفنانين هشام بنجابي وصفية بن زقر مشهد الفعاليات هذا العام.
معرض “ذاكرة المدينة، والناس، والوطن” يعرض مقتنيات بنجابي ضمن بيت نصيف العريق، في توليفة تُذكّر بأهمية حفظ التراث البصري للمملكة، حيث يستعرض مسيرته الفنية من خلال أرشيفات صوتية وبصرية ومقتنيات خاصة تُعرض لأول مرة، توثّق علاقته بجدة كمدينة وذاكرة.
أما بن زقر، فيُعرض إرثها الإنساني والاجتماعي في معرض يُبرز الذاكرة الاجتماعية والمعمارية لجدة، من خلال صور وأرشيفات ومقتنيات تسلّط الضوء على تاريخ المنطقة، وأعمال وثّقت الحياة اليومية في جدة، بألوان تتجاوز الجماليات لتبلغ مستوى التوثيق الثقافي الحقيقي.
هذا التوجه لا يعكس فقط حرص وزارة الثقافة على تكريم الرموز الفنية، بل يُظهر نضوجًا في فهم الثقافة كأرشيف حي، ليس كزينة فقط.
تجارب فنية معاصرة: عندما تنبض الحِرفة بإيقاع اليوم
إلى جانب الطابع التوثيقي، يُقدّم “بلد الفن” معارضاً معاصرة تطرح رؤى فنية تستوحي من الحرف، والذاكرة، والتقنية الحديثة، وتضفي على الفعالية طابعًا فريدًا، حيث تتداخل الأعمال الفنية مع العمارة التقليدية، مُعززةً تجربة الزائر ومُبرزةً جماليات المكان.
في معرض “نسيج زمني” داخل بيت برغوتة، تتقاطع صور فوتوغرافية مع رموز الحِرَف اليدوية، لتعيد إحياء الموروث بأسلوب تركيبي دقيق.
أما في بيت شعيب، يُعرض “سرديات الحِرفة” كعمل تفاعلي يُقدّم حكايات محلية من قلب جدة التاريخية، عبر فنون الوسائط المتعددة مستعرضًا تطور الحرف اليدوية.
من جهة أخرى، يقدّم معرض الحرف اليدوية والخط العربي في بيت فاطمة نوارة تجربة تفاعلية تتيح للزوار التعرف على التحولات الجمالية في هذا الفن، من الأطر الكلاسيكية إلى التجريبية، مما يتيح للزوار تجربة تفاعلية مع الفنون التقليدية.

بين الفن والاقتصاد جدة تكتب سردية جديدة
لا يمكن فصل “بلد الفن” عن مشروع تحويل جدة التاريخية إلى مركز عالمي للثقافة والفنون، كما نصّت عليه رؤية 2030.
تُمثّل هذه الفعالية نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الفعاليات الثقافية المستدامة: حيث تتلاقى السياحة مع التراث، والفن مع الاقتصاد الإبداعي، والفنان المحلي مع الجمهور العالمي.
إن نجاح “بلد الفن 2025” في استقطاب جمهور متنوع — من المهتمين بالفنون البصرية، إلى العائلات والزوار الدوليين — يكشف عن نضج في فهم القطاع الثقافي كقوة قادرة على التأثير الإيجابي في الاقتصاد المحلي وخلق فرص العمل وتوطين الصناعات الإبداعية.
هل نعيش لحظة تحول حقيقية؟
اللافت هذا العام ليس فقط حجم الفعاليات، بل جودة الرؤية. “بلد الفن” لا يقدّم الفن كمجرد ترف، بل كضرورة اجتماعية وثقافية واقتصادية. ومع كل عرض أو ورشة، تتجلى نية واضحة: بناء جيل جديد يرى في الحيّ التراثي مساحة ممكنة للحياة والإبداع والعمل.
وفي ظل هذا الاتجاه، يبدو أن الفعالية قد تجاوزت حدود كونها حدثًا مؤقتًا، إلى مشروع طويل الأمد يُراهن على قوة الثقافة في إعادة بناء المدن من الداخل.